شهيـد الفجـر
أحمد ياسين
على شاطئ البحر من قمّة جبل عسقلانَ وقف طفل صغير يتأمَّل ينظر إلى أمواج البحر الَّتي تعصِف بالصُّخور ... ما هي إلا قطَراتٌ من الماءِ اللَّطيف لكنَّها عندما تعصِف تحطِّم الصُّخور.
بينما هو يتأمَّل رفع نظره إلى الأفق فإذا بسفينة حربيّة تشقُّ طريقها في البحر باتِّجاه الشّاطئ، دفعه الفضولُ لمراقبتها ومعرفةِ لأيِّ شيءٍ أتت، وما هيَ إلا لحَظاتٌ حتّى أصبحت واضحةً تماماً، إنَّها سفينة عربيّة مِصريّة جاءت لمساعدةِ الجيش العربيِّ المحاصر في فِلسطينَ، ما إنِ اقتربت من الشّاطئ حتّى أحاطت بها ثلاثُ سفن إسرائيليّة أرادت تدميرها وضيَّقتِ الحصار حولَها.
أخذ قلب الصَّغير يخفق بشدّة وحزنٍ، فتلك السَّفينةُ جاءت لمساعدة المجاهدين وطردِ المحتلِّ الغاشم، لكنَّه يراها وحيدةً دون عون أمامَ ذلك العدوِّ البغيض، شعر بغُصّة شديدة، وترقرقت في عينه دمعةٌ وهو يشاهد تلكَ المعركة دون أمل في النَّجاة.
لكنَّ ذلك الإحساسَ باليأس ما لبِث أن تبدَّد عندما شاهد كيف يناور قائدُ السَّفينةِ بحكمة وشجاعة، كان يهاجم وهو الضَّعيفُ الوحيدُ ثلاثَ سفن مجتمعةً، واستمرَّ في هجومه دون يأسٍ أو ملل، ضربةً تِلوَ الأخرى حتّى فرَّتِ السُّفن من أمامه مندحرةً خائبةً.
رقص قلب الصَّغير من شدّة الفرح، ثمَّ عاد ليفكِّرَ فيما حصل أمامَه: هل كان ذلك معجزةً أم حُلماً أم حقيقةً؟ نظر إلى الأمواجِ ثانيةً ما هي إلا قطَراتٌ من الماءِ اللَّطيف لكنَّها عندما تضرب تحطِّم الصُّخور، ليس ذلك مستحيلاً.
هذا مشهدٌ من المشاهد الكثيرة الَّتي ما كانت لتُمحى من ذاكرة طفل صغير فهِم جيِّداً كيف تُستمَدُّ القوّةُ من الضَّعف، كيف يُحطِّم الحقُّ العدوان، ليصبحَ فيما بعدُ زعيماً عظيماً، ويقاومَ بكرسيِّه المتحرِّك_وهو الشَّيخ المقعد_ جيوشَ الطُّغيان، اسم ذلك الطِّفلِ كان أحمدُ إنَّه الشَّهيد البطل الشَّيخ أحمد ياسين الَّذي قاد المقاومة رغم ضعفه ومرضه وأذاق المعتدين مرارةَ العلقم.
وُلد الشَّهيدُ أحمدُ ياسين في قرية الجورة جَنوبي غزَّةَ عام 1938م. نشأ في أسرة تتألَّف من ستّة أولادٍ، تُوفِّي والدُه وهو في الخامسة من عمره، درس الابتدائيّة في قريته لكنَّه لم يكمل تعليمه لأنَّه أراد مساعدة أسرته الَّتي عانت ظروف الفقر و الحرمان، ثمَّ عاد بعد فترة وجيزة ليتمَّ دراسته لكن في غزَّةَ بعد أن أجبرت قوّاتُ الاحتلال أهلَ قريته على الرَّحيل، وعندما بلغ السّادسة عشر من عمره أُصيبَ بحادث خطير أثناءَ لعبه مع أحد أصدقائه سبَّب له الشَّلل التّامَّ فيما بعد لكنَّه لم يخبر أحداً بسبب الحادث خوفاً من وقوع خلاف بين أسرته وأسرة صديقه ولم يَذكر ما حدث حتّى عام 1989م ، ثمَّ عانى من فِقدان البصرِ في عينه اليمنى وضعف شديد في عينه اليسرى، إضافةً إلى أمراض رئويّة والتهاباتٍ باطنيّة عديدة، ومع ذلك تابع دراسته في الجامعة ودرس اللُّغة الإنكليزيّة في جامعة (عين شمس) وكان مقبلاً على التَّعليم الشَّرعيِّ، معروفاً بثقافته الواسعة ومطالعاته المتنوِّعة، ولاغرابةَ أن نرى الشَّيخ يتحدّى العجز كمّا يتحدّى العدوانَ، فقد فتح عينيه على الدُّنيا وهو يشاهد قُطعان المحتلِّ تجوس في أرض بلاده المباركة. لقد كان يؤمن بأنَّنا نستطيع أن نفعل كثيراً ما دامت عروقُنا تنبِض بالحياة. بهذا الإيمانِ كان يواجه الاحتلال بحكمة وشجاعة. تجوب كلماتُه الآفاقَ وتستنهض الهِممَ وتوقِظُ النّيام، فكانت بذلك أمضى من رصاصِ العدوِّ. وتحوَّل كرسيُّه المتحرِّكُ إلى آلة جبّارة تفوق قوّة الدَّبّابات والطّائرات.
لقد ظنَّ الصَّهاينةُ أنَّ السِّجنَ والحِرمانَ والتَّعذيبَ سيثني الشَّيخَ الضَّعيفَ عن عزيمته فاعتقلوه أكثرَ من مرّة ولقيَ ما يلقاه أبناءُ شعبه الباسل، وفي كلِّ محاولة يلجأ إليها الاحتلالُ من أجل إسكاته يرتدُّ كيدهم في نحورهم خائبينَ؛ لأنَّ جدران السِّجن لن تمنعَ صوتَ الحقِّ أن ينطلق.
ولمّا تمكَّن العجز من الأعداء امتدَّت يد الغدر نفسُها الّتي امتدَّت إلى عمرَ بنِ الخطّاب وعمرَ المختارِ.. وحاكت مؤامرتَها الوضيعةَ لتنطلقَ ثلاثةُ صواريخَ فتنهالَ على ذلك الجسدِ الطّاهر بعد خروجه من صلاة الفجر من المسجد القريب من بيته.
ظنّوا بذلك أنَّهم سيُسكتون صوت الحقِّ ولم يعلموا أنَّ الشَّيخ أنشأ أجيالاً داخلَ فِلسطينَ وخارجَها كلٌّ منهم أحمدُ ياسين.